في أيام الملك هيرودس في مذود حقير قرب بيت لحم ولد مخلّص العالم المسيح. فجأه أضاء في السماء نجم بنور عظيم
لم يُر مثله من قبل. كان يشع بنور ساطع ويتحرّك ببطء متقدماً باتجاه أرض اليهودية. لفت هذا النجم انتباه راصدي النجوم أو
كما يسمّونهم المجوس،
وبحسب رأيهم كانت هذه علامة إلهية تدلّ على مولد الملك العظيم ومنقذ البشر ومعلّم حياة برّ جديدة المتنبّأ عنه قديماً
في كتب اليهود.
فقرّر بعض المجوس وخصوصاً المتشوّقين منهم إلى البرّ الإلهي على الأرض والمتألمين من آثام البشر الكثيرة التوجه
للبحث عن الملك المولود ليقدّموا سجوداً وعبادة له. ولكنهم لم يعرفوا أين وكيف يبحثون. كان أمامهم طريق طويل جداً
(وخاصة أن الطرق في تلك الأيام كانت خطرة) فقرّروا أن يجتمعوا في مكان واحد ومن هذا المكان يتوجهوا للبحث عن ملك
الحق والبرّ والخير بقافلة واحدة.
وكان من بين المزمعين على البحث العالم الحكيم الفارسي أرطبان. وكان قد باع قصره الذي يمكله في العاصمة واشترى
من ثمنه ثلاثة أحجار كريمة: حجر صفير وحجر عقيق أحمر ولؤلؤة. كانت هذه الأحجار ذات أثمان باهظة، وقد دفع مبلغاَ هائلاً
ليشتريها، وكان جمالها نادراً، فكان الحجر الأول يضيء مثل جزء من السماء المملوءة بالنجوم في ليلة صافية، وكان الثاني
متوهجاً كالجبال الأرجوانية عند غروب الشمس، أما الثالث فكان في لمعانه يفوق جبال الثلج بياضاً. وفكر أرطبان في أن
يضع هذه الأحجار بقلب ملتهب بالحب عند قدميْ الملك المولود. فجمع أصدقاءه ومعارفه لآخر مرة في بيته ليودّعهم قبل
السفر. كان عليه السفر لعدة أيام ليصل إلى مكان تجمّع القافلة، ولكنه لم يخشَ من التأخير لأنه كان قد حسب الوقت
بدقة. كان حصانه جيّداً، وكل يوم كان يقطع المسافة اللازمة.
لم يبق له إلا بضع العشرات من الفراسخ في آخر يوم فقرّر أرطبان أن يواصل السفر ليلاً ليصل في الصباح إلى مكان تجمّع
القافلة. ومع نسمات الليل العليلة كان يضيء في الأفق الأسود اللامتناهي النجم الجديد وكأنه قنديل مضيء أمام عرش
الله. فصاح أرطبان متابعاً النجم بناظريه: "هذه هي علامة الله، فإن الملك العظيم آتٍ إلى أرضنا وسوف أشاهدك قريباً يا
إلهي لأسجد وأقدّم عبادة لك". وشجّع ارطبان حصانه قائلا: "بسرعة يا صديقي، ضاعف خطواتك" فأطاعه حصانه الوفي
ونهج مسرعاً. وسُمع صوت حوافره في روضة النخيل. وشقشق الفجر وسُمع تغريد الطيور واقترب الصباح.
وفجأة توقّف الحصان وصهل وبدأ يتراجع إلى الخلف. وأمعن أرطبان النظر في الطريق عند أقدام الحصان ورأى إنساناً ملقياً
على الأرض. فترجّل عن الحصان وتوجّه نحوه. كان ذلك الرجل يهودياً خائر القوة بسبب الحمى المنتشرة في تلك المنطقة.
كان من الممكن اعتباره ميّتاً من الوهلة الاولى لو لا أنين ضعيف متقطع يصدر من المريض. فكّر أرطبان: ما العمل؟ لم
يسمح له ضميره أن يتابع السفر ويترك المريض، ولكن إذا تأخر عن الموعد المتفق عليه فستنطلق القافلة بدونه. فقرّر
متابعة السفر وهمّ بامتطاء ظهر الحصان ولكن المريض كأنه شعر بأنه سيُترك فأنّ بألم واخترق أنينه قلب أرطبان. فقال: "يا
إلهي الرحيم، أنت تعرف أنني مسرع في البحث عنك ولكنني لا أستطيع أن أترك المريض ويجب أن أساعد هذا اليهودي
المسكين". وتقدّم نحو جدول الماء وأخذ ماء ورشّ صدره ووجهه، وأخرج أدوية من خرج حصانه ومزجها بالخمر وصبّها في فم
اليهودي. وقضى معه ساعات حتى توسّطت الشمس السماء واقترب منتصف النهار. وأخيراً تحسّنت حالة المريض ووقف
على رجليه. لم يكن يعرف كيف يشكر هذا الغريب الصالح وسأله: "من أنت حتى نشكر الله أنا وأسرتي لأجلك كل أيام
حياتنا؟ إلى أين أنت ذاهب ولماذا هذا الحزن على محيّاك؟"فعرّفه أرطبان بنفسه وأعلمه بقصده وبوجهة سفره، وأنه حزين
بسبب تأخّره عن القافلة وأنه أضاع الفرصة لرؤية الملك العظيم. فقال اليهودي وبدت على وجهه إمارات الفرح: "لا تحزن
أيها الفاضل، أستطيع أن أساعدك قليلاً، تقول كتبنا المقدّسة إن الملك الموعود من الله سيولد في مدينة بيت لحم
اليهودية. فانطلق إلى هناك وإذا كان المسيّا قد ولد فستجده هناك." وشكر اليهودي أرطبان مرة أخرى وودّعه ومضى في
طريقه.
كان من الخطر على أرطبان السفر وحيداً في الصحراء، وكان لا بد من إعداد قافلة واستئجار الحرس والخدم وشراء مؤونة
من الطعام والماء. واضطرّ أرطبان إلى بيع أحد الأحجار الكريمة. ولكنه لم ييأس لأنه بقي معه حجران وكان هدفه أن يصل
في الوقت المناسب إلى اليهودية ليرى الملك. ولذلك كان يأمر الخدم بالإسراع. وانطلقت القافلة.
وأخيراً ها هي بيت لحم، وبلغ أرطبان المدينة وكان مرهقاً ومعفراً من غبار الطريق ولكنه كان فرحاً مسروراً، واقترب من أحد
البيوت ودخله فوجد امرأة في البيت، وانهال عليها بالأسئلة: ألم يكن هنا في مدينتكم أناس غرباء؟ وإلى من أتوا؟ وأين هم
الآن؟ وكانت صاحبة البيت إمرأة شابة على صدرها طفل رضيع، استغربت في البداية من منظر أرطبان واضطربت، ولكن ما
هي إلا لحظات وزال الخوف عنها وأجابته بأنه منذ عدّة أيام مضت كان هنا أناس غرباء يبحثون عن مريم التي من الناصرة،
وأحضروا هدايا ثمينة لابنها المولود، ولكن أين هم الآن فذلك غير معروف. في تلك الليلة اختفت مريم ويوسف والطفل
المولود، ويقول الناس بأنهم رحلوا إلى مصر لأن ملاك الربّ ظهر ليوسف في الحلم وأمره بأن يترك المدينة ويغادر إلى مصر.
وبينما هي تجيبه على أسئلته نام الرضيع على صدرها وارتسمت على وجهه الوديع ابتسامة بريئة.
وفكّر أرطبان ماذا عليه أن يفعل، وفيما هو مستغرق في التفكير، فجأه سمع صوت ضجيج في الخارج و صليل سيوف وعويل
نساء يقطّع القلب، فركض أرطبان نحو النافذة فرأى في الشارع نساء شبه عاريات منفوشات الشعر يركضن كلّ في إتجاه
ويصرخن بألم: أنقذونا! أنقذونا! جنود هيرودس يقتلون أطفالنا! نظر أرطبان إلى المرأة الشابة وكان وجهها قد أشحب وعيناها
قد جحظتا من الهلع والخوف وضمّت رضيعها إلى صدرها وبصعوبة تمتمت ببضع كلمات: أنقذه، أنقذ الطفل والله سينقذك.
وتوجّه أرطبان بسرعه ليغلق باب البيت، ولكن الجنود كانوا قد وقفوا أمام الباب ملطّخين بدماء الأطفال الأبرياء. ومدّ أرطبان
يده نحو عبّه حيث كان كيس صغير وأخرج منه حجراً كريماً وقدّمه إلى قائد الكتيبة قائلا: "هاك، خذه، اذهب واترك هذه
المرأة بسلام". فانبهر قائد الكتيبة من منظر الحجر الذي لم يرَ مثله في حياته أبداً، و مدّ يده بجشع وأخذه، وأمر جنوده بأن
يتركوا المكان بسرعة، ومضى الجنود ليتابعوا مهمّتهم الدموية المخيفة في مكان آخر. فسجدت المرأة على ركبتيها أمام
أرطبان وقالت له بصوت ملؤه الامتنان والشكر: "ليباركك الرب الإله من أجل إنقاذك لطفلي، أنت تبحث عن ملك الحق والبرّ
والخير، ليكن بهاء وجهه أمام وجهك ولينظر إليك بالمحبّة التي أنظر أنا بها إليك". فأمسكها أرطبان من يدها وأقامها بلطف،
وانهالت الدموع على وجنتيه وهي دموع فرح ودموع حزن في آن واحد وهمس قائلا: "يا إله الحق سامحني، من أجل هذه
المرأة وطفلها أعطيت الحجر الكريم الذي خصّصته لك. تُرى هل سأرى وجهك يا سيدي؟ ها أنا تأخّرت مرّة أخرى في
المجيء إليك. سأذهب وراءك إلى مصر".
وارتحل أرطبان من بلد إلى بلد يبحث عن ملك الحق والبرّ والخير، بحث طويلا ولكنه لم يجده، واحتفظ باللؤلؤة وهي كنزه
الوحيد الذي بقي معه مخبئاً إيّاها متمنياً أن يقدّمها إلى الملك العظيم. وكان قد تبقّى معه مال وفير من بيع الحجر الأول،
لذلك كان يساعد الفقراء ويعالج المرضى ويأوي الأيتام وهكذا مضت السنون على أرطبان دون ان يشعر بها.
أكثر من ثلاثين سنة مضت، وهرم أرطبان وانحنى ظهره وشاب رأسه وكلّ بصره وضعفت يداه ورجلاه، ولكن لم تنطفئ في
قلبه شعلة الحب لذلك الذي كان يبحث عنه منذ وقت طويل. وفي يوم من الأيام سمع العجوز أرطبان بأنه قد ظهر في
اليهودية رسول عظيم من عند الله وهو يصنع المعجزات ويشفي المرضى ويقيم الموتى ويغيّر قلوب الخطأة والأشرار
ويجعلهم قدّيسين. فإرتقص قلب أرطبان فرحاً وقال: "الآن أصبح من الممكن أن أراك يا سيدي لأسجد لك وأقدّم عبادة لك".
و أسرع أرطبان متوجهاً إلى اليهودية.
وصل أرطبان إلى المدينة المقدّسة مع جموع الزوّار القادمين إليها، وبدخوله المدينة رأى في الشوارع حركة غير طبيعية،
حيث كانت جموع الناس تركض باتجاه واحد. سال أرطبان: "إلى أين هم مسرعون؟" فاجابه أحدهم: "إلى الجلجثة حيث
سيُصلب اليوم يسوع الناصري الذي دعا نفسه ابن الله وملك اليهود". وقع أرطبان على الأرض وبكى بمرارة، وقال بنحيب:
"قد تأخرت مرّة أخرى ولم أستطع أن أراك وأن أقدّم لك عبادة يا سيدي". وفكّر أرطبان في نفسه: "قد لا أكون متأخراً وأقدر
أن أفعل شيئاً، سأذهب وراءه إلى الجلجثة، وسأعرض على معذبيه اللؤلؤة من أجل أن يشفقوا عليه ويعيدوا له حريته
وحياته".
وهمّ أرطبان بالسعي وراء الراكضين نحو الجلجثة، وعلى تقاطع الطريق قابلته مجموعة من الجنود يقودون فتاة إلى
السّجن. فنظرت الفتاة إلى أرطبان وعرفت من ملابسه بأنه من بلاد فارس، ونادته برجاء: "أنا من بلادك، لقد جاء أبي إلى
هنا ومرض ومات، ومن أجل ديونه هم يريدون أن يبيعوني عبدة مكللّة بالعار، أتوسّل إليك أنقذني." ارتجف العجوز أرطبان
واشتعلت في قلبه ذكريات صراع قديم كان قد واجهه عند روضة النخيل مع ذلك اليهودي ومع تلك المرأة في بيت لحم عند
قتل الأطفال. فقال في نفسه: "ما العمل؟ هل أحتفظ باللؤلؤة للملك العظيم، أم أقدّمها مساعدة لهذه الفتاة المسكينة؟"
امتلأ قلب أرطبان حباً وشفقة وقال للفتاة: "هاك يا ابنتي، خذي اللؤلؤة وفكّي دينك واشتري حرّيتك. أكثر من ثلاثين سنة
حفظتُ هذه الجوهرة لأقدّمها للملك العظيم. ولكن يبدو أنني غير مستحق بأن أقدّم له هذه الهديّة".
وبينما هو يتكلّم مع الفتاة فجأة أظلمت السماء بالغيوم وغطّت الأرض ظلمة كثيفة وشعاع من البرق اخترق السماء من
مشرقها إلى مغربها ودُوّي صوت رعد عظيم واهتزت البيوت وتساقطت الحجارة وسقطت قطعة كبيرة من قرميد أحد البيوت
وأصابت رأس أرطبان العجوز فهوى على الأرض مترنحاً ومخضباً بدمائه النازفة من رأسه، وانحنت الفتاة نحوه لتساعده
وسمعته يقول بصوت منخفض: "يا سيدي، متى رأيتك جوعاناً فأطعمت؟ ومتى رأيتك عطشاناً فسقيت؟ ومتى رأيتك غريباً
فآويت؟ ثلاثين سنة كنت هائماً في البحث عنك من بلد إلى بلد، ولكني لم أعثر عليك."
وصمت العجوز، وهبّت نسمة ريح خفيفة داعبت الشعر الأبيض لأرطبان المحتضر. وسُمع صوت عذب وكأنه داخل نسمة
الريح قائلا: "الحق الحق أقول لك، كلّ ما فعلته بهؤلاء فبي قد فعلت". وتجلّى وجه أرطبان المحتضر ورفع عينيه نحو
السماء بامتنان وشكر وتنهّد براحة وأسلم الروح.
لقد انتهت تجوالات المجوسي العجوز أرطبان في الأرض بحثاً. لقد وجد أرطبان المخلّص أخيراً وقُبلت هداياه.[center]